– حال الصوفية للعلامة الطرطوشي مع تعليق العلامة الشنقيطي

حال الصوفية للعلامة أبي بكر الطرطوشي
بتعليق العلامة محمد الأمين الشنقيطي
رحمهما الله

بسم الله الرحمن الرحيم.

قال ربُّنا عزّ وجلّ:

(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)) سورة طه.

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره الموسوم ب: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن):

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ مَا نَصُّهُ:

وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ: مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ؟
وَأُعْلم -حَرَسَ اللَّهُ مُدَّتَهُ- أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالٍ فَيُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُوقِعُونَ بِالْقَضِيبِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَدِيمِ، وَيَقُومُ بَعْضُهُمْ يَرْقُصُ وَيَتَوَاجَدُ حَتَّى يَقَعَ مغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَيُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ. هَلَ الْحُضُورُ مَعَهُمْ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ:
يَا شَيْخُ كُفَّ عَنِ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالزَّلَلْ
وَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا … مَا دَامَ يَنْفَعُكَ الْعَمَلْ
أَمَّا الشَّبَابُ فَقَدْ مَضَى … وَمَشِيبُ رَأْسِكَ قَدْ نَزَلْ
وَفِي مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ.

الْجَوَابُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ:

مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ بَطَالَةٌ وَجَهَالَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَمَا الإِسْلَامُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَأَمَّا الرَّقْصُ، وَالتَّوَاجُدُ: فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجَلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ، وَيَتَوَاجَدُونَ، فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ وَعِبَادَةُ الْعِجْلِ.

وَأَمَّا الْقَضِيبُ: فَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيَشْغَلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ مِنَ الْوَقَارِ.
فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ، وَغَيْرِهَا.

وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ، وَلَا أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ (الشنقيطي)- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -:

قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْحَقِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِذَلِكَ عَالَجُوا أَمْرَاضَ قُلُوبِهِمْ وَحَرَسُوهَا، وَرَاقَبُوهَا وَعَرَفُوا أَحْوَالَهَا، وَتَكَلَّمُوا عَلَى أَحْوَالِ الْقُلُوبِ كَلَامًا مُفَصَّلًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَوِ ابْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، أَوِ ابْنِ عَسْكَرٍ أَعْنِي أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ، وَكَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ حَكَمُ الْأُمَّةِ، وَأَضْرَابِهِمَا، وَكَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ، أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ، وَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَنْ سَارَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَالَجُوا أَمْرَاضَ أَنْفُسِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَحِيدُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ أَشْيَاءٌ تُخَالِفُ الشَّرْعَ.

فَالْحُكْمُ بِالضَّلَالِ عَلَى جَمِيعِ الصُّوفِيَّةِ لَا يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمِيزَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ فِي ذَلِكَ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهَدْيِهِ وَسَمْتِهِ، كَمَنْ ذَكَرْنَا وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ الضَّالُّ.

نَعَمْ، صَارَ الْمَعْرُوفُ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ، أَنَّ عَامَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ دَجَاجِلَةٌ يَتَظَاهَرُونَ بِالدِّينِ لِيُضِلُّوا الْعَوَامَّ الْجَهَلَةَ وَضِعَافَ الْعُقُولِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، لِيَتَّخِذُوا بِذَلِكَ أَتْبَاعًا وَخَدَمًا، وَأَمْوَالًا وَجَاهًا، وَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ الْحَقِّ، لَا يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَاسْتِعْمَارُهُمْ لِأَفْكَارِ ضِعَافِ الْعُقُولِ أَشَدُّ مِنِ اسْتِعْمَارِ كُلِّ طَوَائِفِ الْمُسْتَعْمِرِينَ. فَيَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْهُمْ، وَالِاعْتِصَامُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بَعْضُ الْخَوَارِقِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:

إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَطِيرُ … وَفَوْقَ مَاءِ الْبَحْرِ قَدْ يَسِيرُ
وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ … فَإِنَّهُ مُسْتَدْرِجٌ أَوْ بِدْعِي

وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَمُتَصَوِّفَةِ آخِرِ الزَّمَانِ فَهُوَ الضَّالُّ. وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي.

نَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّا يُزِيغَنَا، وَلَا يُضِلَّنَا عَنِ الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الَّتِي هِيَ مَحَجَّةٌ بَيْضَاءُ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

تفسير سورة طه من كتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) للشنقيطي.

انتقاء: عبدالله بن أحمد الطالبي
غفر الله له ولوالديه
.